دخول
أفضل 10 أعضاء في هذا المنتدى
مجدى عيد - 3577 | ||||
بنت البابا كيرلس - 199 | ||||
kamel - 36 | ||||
بيتر مجدى - 36 | ||||
اشرف - 34 | ||||
ashref nour - 27 | ||||
القس عزيز - 22 | ||||
عادل - 20 | ||||
امال - 17 | ||||
منير رشدى - 13 |
المواضيع الأخيرة
المواضيع الأكثر شعبية
المواضيع الأكثر نشاطاً
ترانيم مجدى عيد
ايات كتابيه
"اِفْرَحُوا فِي الرَّبِّ كُلَّ حِينٍ، وَأَقُولُ أَيْضًا: افْرَحُوا" (رسالة بولس الرسول إلى أهل فيلبي)
الكتاب المقدس - العهد القديم - التوراة + الأسفار التاريخية
الكتاب المقدس - العهد القديم - الأسفار الشعرية + الأنبياء
سفر المزامير
الكتاب المقدس - العهد الجديد
تأملات بالموسيقى
نياحة وصعود جسد مريم العذراء 2
صفحة 1 من اصل 1
نياحة وصعود جسد مريم العذراء 2
ب) انتقال مريم العذراء في كتابات الآباء
لقد أورد القدّيس يوحنّا الدمشقي، في عظته الثانية عن رقاد السيّدة، تقليدًا مستمَدًّا من كتاب "التاريخ الأوثيمي" المنحول، مفاده أنّ الرسل الأطهار جُذبوا بلحظة، ساعة رقاد السيّدة، وأتوا من كل الجهات التي كانوا يبشّرون فيها لأجل خلاص العالم، وارتقوا السحب بإشارة إلهيّة، ووفدوا على مقام البتول. ولمّا بلغوا إليها ظهر المسيح ابنها، فأودعت نفسها الطاهرة بين يديه. أمّا جسدها الذي حلّ فيه ابن الله، فشيّعه الرسل ومن معهم بكل إجلال ودفنوه في الجسمانية. ولمّا انقضى اليوم الثالث فتح الرسل الحاضرون نعش البتول نزولاً عند رغبة الرسول توما الذي لم يكن معهم، فلم يجدوا الجسد الكريم. فأخذتهم الدهشة والعجب... فاستنتجوا من الحادث أنّ الكلمة الأزلي الذي تنازل وأخذ جسدًا من أحشائها النقيّة، وحفظ بتوليّتها سالمة بعد ولادته منها، أراد أيضاً أن يكرّم جسدها البتولي والبريء من الدنس ويقيه من الفساد والانحلال وينقله إلى دار الخلود قبل القيامة العامّة. ويضيف الإنجيل المنحول أنّ تيموثاوس أوّل أسقف على أفسس، وديونيسيوس الأريوباجي وإياروثاوس أسقف أثينا حضروا مع الرسل أمام نعش والدة الإله. وقد استمرّ هذا التقليد في الفن الإيقونوغرافي البيزنطي الذي يمثّل رقاد السيّدة على الشكل المذكور أعلاه: العذراء مسجّاة على فراش الموت يحيط بها الرسل، والسيّد المسيح يتقبّل نفسها الطاهرة ترمز إليها طفلة صغيرة يحملها على ذراعيه.
إنّ هذا التقليد لا يرتكز على حدث تاريخي، بل يعبّر بشكل روائي عن إيمان الكنيسة الأولى بأنّ ابن الله الذي اتّخذ جسدًا من أحشاء مريم العذراء، وصار لها ابنًا حقًّا، وخصّها بشرف البتوليّة الدائمة، أكمل نعمته عليها، فصان جسده ها من فساد القبر ونقله إلى المجد السماوي. وهذا الايمان لا يستند إلى نصوص كتابيّة مباشرة بل إلى تحليل لاهوتي، يعتبر انتقال مريم العذراء بجسدها ونفسها إلى المجد السماوي نتيجة ضرورية لأمومتها الإلهيّة. فابن الله صار ابن مريم، وجسد كليهما واحد. وحيث يكون جسد الابن هناك جسد أمّه أيضاً. وكما أقام الله جسد ابنه ولم يتركه "يرى الفساد" (راجع خطبة بطرس الأولى في أع 2: 22- 32)، كذلك أقام الابن جسد أمّه، ذلك الهيكل الطاهر الذي قدّسه الروح القدس وسكن فيه ابن الله تسعة أشهر وقد اتّخذ منه دمه ولحمه، ولم يتركه يرى الفساد والانحلال كسائر أجساد البشر.
وهذا التحليل اللاهوتي نجده لدى كثير من الآباء. يقول القدّيس أندراوس الكريتي (+ 767): "من اللائق أن يدبّر ابن الله مصير والدته بحسب مصيره الخاصّ". ويقول جرمانوس بطريرك القسطنطينية (+ 733): "كيف يحوّلكِ الموت الى رماد وتراب، أنتِ التي، بتجسّد ابنك، أنقذت الإنسان من فساد الموت؟" والقدّيس يوحنّا الدمشقي (+749)، في عظته الأولى والثانية على الانتقال، يوضح لماذا ماتت مريم العذراء، ولماذا انتقلت بعد موتها الى السماء بجسدها ونفسها. يقول: "لماذا الانتقال؟ لقد كان من الواجب أن يكابد أسر المهاوي الأرضيّة هذا المقرّ اللائق بالله، الينبوع الذي لم تحفره يد البشر، حيث تتفجّر المياه التي تطهّر من الخطايا، الأرض غير المحروقة التي تنتج الخبز السماوي، الكرمة التي أعطت بدون أن تروى خمر الخلود، زيتونة رحمة الآب الدائمة الاخضرار ذات الثمار العذبة. ولكن، كما أنّ الجسد المقدّس النقيّ الذي اتّخذه الكلمة الإلهيّة منها، قام من القبر في اليوم الثالث، هكذا كان يجب أن تؤخذ هي من القبر وأن تجتمع الأمّ بابنها. وكما نزل نحوها، هكذا يجب أن تُرفَع هي عينها، وهي موضوع محبّته، حتى "القبّة الأسمى والأكمل" الى "السماء عينها" (عب 9: 11- 24).
"لقد كان يجب أن تصون جسدها من الفساد حتى بعد وفاتها تلك التي لم تثلم بكارتها في الولادة.
"كان يجب أن تعيش في القباب الإلهيّة تلك التي حملت خالقها في حشاها طفلاً صغيرًا. كما يجب أن تأتي العروس التي اختارها الآب، فتقطن في السماء المقرّ الزوجي...
"اليوم العذراء البريئة من الَدنس، التي لم تخامرها عاطفة أرضيّة، بل تغذّت بالأفكار السماويّة، لم تعد الى التراب، وبما أنّها بالحقيقة سماء حيّة، أقامت في الأخبية السماويّة، فهل يخطىء إذن من يدعوها "سماء"؟ إلاّ إذا قلنا، ولعلّه بعدل وصواب، إنّها تفوق السماوات عينها بامتيازات لا مثيل لها، لأنّ من بنى السماوات واحتواها، والذي صنع الكون وما وراء الكون، المنظور وغير المنظور (كو 1: 16)، الذي لا مقرّ له، لأنّه هو عينه مقرّ كلّ الكائنات -لأنّ المقرّ في تحديده يحوي ما فيه- قد جعل نفسه فيها طفلاً صغيرًا، وجعل منها مقرّ ألوهيّته الفسيح الذي يملأ كلّ شيء، وحيدًا ولا حدّ له، قد تجمّع فيها كلُّه بدون أن يتصاغر، وهو مستقرّ بكامله خارجًا، لأنّه هو مقرّ ذاته غير المحدود.
"اليوم كنز الحياة، لجّة النعمة، تدخل في ظلال موت يحمل الحياة، تتقدّم منه بدون خوف، تلك التي ولدت مبيده، هذا إذا جاز أن نسمّي موتًا رحيلها المفعم قداسة وحياة.
"كيف تقع في سلطان الموت من كانت للجميع ينبوعًا للحياة الحقيقية؟ غير أنّها تخضع للشريعة التي وضعها ابنها عينه، وكابنة لآدم القديم تفي الدين الوالديّ، لأنّ ولدها عينه، الذي هو الحياة في ذاته، لم يرفض ذلك. ولكن بصفتها والدة الإله الحيّ، فمن العدل أن تُنقَل اليه، لأنّه إذ قال الله: لئلاّ يمدّ الإنسان (المخلوق الأوّل) يده فيقطف من شجرة الحياة ويأكل فيحيا الى الأبد... (تك 3: 22)، كيف لا تعيش مدى الأبد تلك التي قبلت الحياة عينها بدون بداية ولا نهاية؟".
والكنيسة الأرثوذكسيّة، انسجامًا مع تعاليم الآباء، تؤمن أيضًا بانتقال مريم العذراء الى السماء بجسدها ونفسها، ولكن دون أن تفرض هذا الأمر على ضمير المؤمنين كعقيدة إيمانية، "لأنّها تفتقر الى إثبات، ولم يرد في الإعلان الإلهي أو الكتاب المقدّس أيّ إشارة تؤكّدها"، حسب قول أحد المؤلّفين الأرثوذكسيّين، الذي يضيف موضحًا أسباب انتشار هذا الاعتقاد في عبادة الكنيسة: "وفي هذه العبادة رجاء للكنيسة بالاستعادة الآتية (Apokatastase)، أي عودة الخليقة كلّها، في اليوم الأخير، الى وضعها الفردوسي، بالتألّه، لأنّ العذراء، "بانتقالها الى الحياة"، هي "أوّل كائن بشري يتألّه، كما يقول بول إفدوكيموف، وهي الأولى والسبّاقة، لأنّها ولدت الطريق ووضعت نفسها في الاتّجاه الصحيح، كأنّها "عمود من نار يقود المؤمنين الى أورشليم الجديدة" (فلاديمير لوسكي). لذلك "يلخِّص اسم والدة الإله كلّ تاريخ التدبير الإلهي في العالم"، كما يقول القدّيس يوحنّا الدمشقي (في الإيمان الأرثوذكسي 3: 12)... وفي المجال نفسه يقول اللاّهوتي الأرثوذكسي اليوناني المعاصر بنايوتيس نيللاس: "شركة سريّة تربط جسد مريم بجسد المسيح. وكما أنّ جسد المسيح هو في الحقيقة جسد أمّه، هكذا جسد مريم هو أيضًا جسد ابنها المتألّه. مريم هي أوّل كائن بشري يتّحد بطريقة صحيحة وحقيقية بالمسيح. لقد لبست حقًّا المسيح. لهذا السبب لم يبق جسدها في فساد الموت، بل رفعه المسيح الى السماء كعربون لصعود جميع القدّيسين بأجسادهم الى السماء".
ج) انتقال مريم العذراء في الصلوات الليترجيّة
هذا الإيمان بانتقاله مريم العذراء قد عبّرت عنه الكنيسة في صلواتها الليترجيّة. نقتطف بعضًا من هذه الصلوات من رتبة عيد رقاد السيّدة في الطقس البيبزنطي:
"أيّتها البتول، لقد أوليتِ الطبيعة جوائز الغلبة إذ ولدت الإله، ولكنّك خضعتِ لنواميس الطبيعة مماثلة ابنكِ وخالقكِ، ومن ثمّ متِّ لتنهضي معه الى الأبد".
"إنّ الملك إله الكلّ قد منحكِ ما يفوق الطبيعة، لأنّه كما صانكِ في الولادة عذراء، كذلك صان جسدكِ في الرمس بغير فساد، ومجّدكِ معه بانتقالكِ الإلهيّ، وأولاكِ شرفًا شأن الابن مع أمّه".
"أمّا في ميلادكِ، يا والدة الإله، فحبل بغير زرع. وأمّا في رقادك فموت بغير فساد. إنّ في ذلك أعجوبة بعد أعجوبة. إذ كيف العادمة الزواج تغذّي ابنًا وتلبث طاهرة، أم كيف أمّ الإله تُشَمُّ منها رائحة ثوب الممات؟ فلذلك نرنّم لك مع الملاك قائلين: السلام لك يا ممتلئة نعمة"
"أيتّها النقيّة، إنّ المظالّ السماويّة الإلهيّة قد تقبّلتك كما يليق، بما أنّك سماء حيّة ومنزّهة عن كل وصمة".
د) أبعاد انتقال مريم العذراء الى السماء ومعانيه
ما آمنت به الكنيسة منذ القرون الأولى وعبرّت عنه بطرق متنوّعة في الصلوات الليترجيّة ومواعظ الآباء، وتحديد العقيدة في الكنيسة الكاثوليكيّة في موضوع انتقال مريم العذراء بجسدها ونفسها الى المجد السماوي، هو إعلان للعظائم التي صنعها الله في مريم العذراء، بحسب قولها: "ها منذ الآن تغبّطني جميع الأجيال، لأنّ القدير صنع بي عظائم، واسمه قدّوس، ورحمته الى جيل وجيل للّذين يتّقونه" (لو 1: 48- 50). إنّ عظائم الله قد رافقت مريم العذراء طوال حياتها، وبما أنّ الله هو إله الحياة التي لا نهاية لها، تؤمن الكنيسة أنّ ما صنعه الله من عظائم لا يتوقّف عند حدود هذه الحياة بل يمتدّ الى ما بعد الموت. ويستطيع كلّ مؤمن أن يقرأ في مسيرة حياة مريم العذراء مسيرة إيمانه، وفي مصير مريم العذراء بعد الموت مصير كيانه ومصير شخصه في نهاية الزمن.
الروح القدس أحيا جسد العذراء
يقول بولس الرسول: "إذا كان روح الذي أقام يسوع من بين الأموات ساكنًا فيكم، فالذي أقام المسيح يسوع من بين الأموات يحيي أيضًا أجسادكم المائتة بروحه الساكن فيكم" (رو 8: 11).
انتقال مريم العذراء بجسدها ونفسها الى السماء هو نتيجة لعمل الروح القدس فيها. فالروح القدس الذي حلّ عليها وأحيا جسدها لتصير أمًّا لابن الله هو نفسه يكمّل عمله فيها ويحيي جسدها المائت وينقله الى المجد السماوي. الروح القدس هو قدرة الله المحيية، وهذه القدرة لا يوقفها شيء: إنّها حركة دائمة، وديناميّتها تفوق ما يستطيع عقلنا البشري تصوّره. بهذه القدرة كان يسوع يشفي المرضى ويخرج الشياطين ويقيم الموتى (راجع لو 4: 18- 19؛ مر 12: 18- 28). وبهذه القدرة قام هو نفسه من الموت. وبهذه القدرة سيقيم الأموات في الدينونة العامة. ولأنّ مريم العذراء كانت في جسدها ونفسها مستسلمة استسلامًا تامًّا لعمل الروح القدس، آمن المسيحيّون منذ القرون الأولى أنّها حصلت حالاً بعد موتها على قيامة الجسد التي هي مصير كلّ المؤمنين في نهاية الزمن.
بهاء القيامة
الخلاص في الديانة المسيحيّة ليس إنقاذ الإنسان من الخطايا بقدر ما هو إعادته الى بها الصورة الإلهيّة التي خُلق عليها.. الديانة المسيحيّة هي ديانة البهاء والمجد، وتلك السمة هي التي تبرّر وجودها وتثّبت صحتّها. فإذا كان لله وجود، وإذا كان الله قد ظهر لنا في شخص ابنه وكلمته وصورة مجده يسوع المسيح، فلا بدّ من أن يكون الله إله المجد والبهاء. وهذا ما تعبّر عنه الكنيسة في اعتقادها بانتقال مريم العذراء. تقول الكنيسة البيزنطية في إحدى صلوات عيد رقاد السيّدة: "ما أعجب أسرارك أيّتها السيّدة النقيّة، لأنّك ظهرت عرشًا للعليّ، واليوم قد انتقلت من الأرض الى السماء. فمجدك وافر البهاء، ويعكس أشعّة المواهب الإلهيّة" (صلاة المساء الكبرى). إنّ أشعّة المواهب الإلهيّة التي حصلت عليها مريم العذراء تنعكس في حياتها. فهي السيّدة النقيّة لأنّها "ممتلئة نعمة"، وقد "ظهرت عرشًا للعليّ"، لأنّ ابن الله سكن فيها، وتكلّلت تلك المواهب "بانتقالها من الأرض الى السماء"، وظهر فيها مجد الله الوافر البهاء.
لا يمكننا التنكّر للواقع والتغاضي عن الخطيئة في العالم. ولكنّ قيامة المسيح هي أيضًا جزء من هذا الواقع. من قبر المسيح انبعث نور الله، ومع المسيح القائم من بين الأموات دخل مجد الله العالم، ويعمل كالخمير على تجديده من الداخل. تاريخ العالم ليس تاريخ معركة مجهولة المصير بين الحقّ والباطل، بل تاريخ ولادة جديدة. يقول بولس الرسول: "إنّ الخليقة قد أُخضعت للباطل.. إنّما على رجاء أنّ الخليقة ستُعتَق، هي أيضًا، من عبوديّة الفساد الى حريّة مجد أبناء الله. فنحن نعلم أنّ الخليقة كلّها معًا تئنّ حتى الآن وتتمخَّض، وليس هي فقط، بل نحن أيضًا الذين لهم باكورة الروح، نحن أيضًا نئنّ في أنفسنا منتظرين التبنّي افتداء أجسادنا" (رو 8: 20- 23). نحن من الآن أبناء الله، ولنا باكورة الروح، ولكنَّ ما نحن عليه سيتجلّى على أتمّ وجه في المجد الخالد، فيكون عندئذ للجسد المفتدى، القائم، قسط من السعادة كبير، حسب قول بولس الرسول: " الإنسان الأوّل من الأرض، من التراب، والإنسان الثاني من السماء. فعلى مثال الترابي يكون الترابيّون، وعلى مثال السماوي يكون السماويّون، وكما لبسنا صورة الترابي نلبس أيضًا صورة السماوي" (1 كور 15: 47- 49). في وسط عالمنا لبس المسيح السماوي جسدنا الترابي، وبهذا الجسد ارتبط بعالمنا. وقيامته الجسديّة لم تفقده ارتباطه بنا، بل بدخوله مجد الآب، صار ارتباطه بنا أكثر اتّساعًا. ارتفع عن الأرض ليجتذب اليه الجميع (يو 12: 32)، ارتفع الى السماوات ليملأ مجده جميع الأرض، بحسب قول المزمور: "ارتفع اللهمّ على السماوات، وليكن مجدك على جميع الأرض" (مز 57: 12؛ راجع أيضًا أف 4: 8- 10). المسيح لم يتمجّد وحده. "فبعد إذ أميت بالجسد، استردّ الحياة بالروح، وبهذا الروح عينه مضى وبشّر الأرواح المضبوطة في السجن" (1 بط 3: 19)، أي إنّه نزل الى "الجحيم" مقرّ الأموات حيث كانت نفوس الصدّيقين تنتظر، كفي سجن، مجيئه الخلاصي وصعودها معه الى السماء، وبشّرها بأنّ عمل الفداء قد تحقّق، وتمّ الانتصار على الموت. وفي الموضوع عينه يتكلّم إنجيل متّى عن عامه كسيرين من الأموات مع المسيح: "القبور تفتّحت، وكثيرون من القدّيسين الراقدة أجسادهم فيها قاموا، وخرجوا من القبور بعد قيامته، ودخلوا المدينة المقدّسة، وتراءوا لكثيرين" (متّى 27: 52- 53).
إنّ ابن الله الذي "له مجد الآب من قبل كون العالم" (يو 17: 5) قد تجسّد في أحشاء مريم العذراء. وبسبب تلك الشركة الروحيّة في المجد والبهاء بين السيّد المسيح وأمّه، آمنت الكنيسة أنّ مريم العذراء، بعد موتها، شاركت ابنها مجد قيامته كما شاركته، في تجسده، مجد ظهوره.
قيامة الأجساد
جسد الإنسان، في نظر الكتاب المقدّس، ليس سجنًا يجب التخلّص منه للوصول الى العالم الحقيقي، عالم الأرواح. نظرة الكتاب المقدّس الى الإنسان لا تقوم على التناقض بين الجسد والروح، بل على التناقض بين الفرد المنعزل المتقون على ذاته والشخص المنفتح في علائقه على الكون وعلى الآخرين وعلى الله. والجسد هو ما يتيح للإنسان الحيّ أن يرتبط بعلائق بنّاءة بالكون والآخرين والله. فالجسد هو إذن الإنسان ذاته من حيث ارتباطه بالعالم الخارجي. لذلك أيضًا رأى معظم آباء الكنيسة، ولا سيّمَا في الشرق، أنّ التجسّد كان لا بدّ منه، ولو لم يخطأ الإنسان، وذلك ليكتمل ارتباط الله بالإنسان وارتباط الإنسان بالله، ونعمة الله التي تعمل في الإنسان تعمل فيه حيث يبني ذاته ويحقّق كيانه العلائقي، فتجعله في روحه وفي جسده أكثر انفتاحًا على الله وعلى الآخرين. للنعمة قوّة تغيير وانفتاح، وعملها هو عمل الحياة الإلهيّة نفسها. كلّ اتصال بالله لا بدّ له من أن يغيّر الإنسان، وإلاّ كان الله مجرّد وهم ابتكره خيال الإنسان ليكوّن لنفسه ما يتعلّق به في هذه الحياة المتقلّبة. إلهنا شخص حيّ يحوّل كلّ من يتّصل به، يدخل أعماق الإنسان ليملأه بحياته الإلهيّة. وقيامة الأجساد هي امتلاء الإنسان من تلك الحياة الإلهية في كل أبعاد كيانه وفي كل ارتباطاته بالله وبالكون وبالآخرين.
إيمان الكنيسة بانتقال مريم العذراء بجسدها ونفسها الى السماء هو اعتراف بأنّ اتّحادها الصميم بالله بجسدها ونفسها، هذا الاتحاد الذي تحقّق لها بتجسّد ابن الله في أحشائها، كما تحقّق لها أيضًا بأمانتها لمحبّة الله واستسلامها لعلم الله فيها طوال حياتها، هذا الاتّحاد يستمرّ بعد موتها باشتراكها في مجد القيامة. فكما تمجّد ابنها وصار مرتبطًا بدخوله مجد الله بالعالم كلّه، هكذا أيضًا تمجّدت مريم العذراء وصارت مرتبطة بالعالم كلّه. وما سيحدث لجميع المؤمنين في القيامة العامة، أي ارتباطهم الكامل الممجّد بالعالم وبالله، قد حدث لمريم العذراء كما حدث لابنها يسوع المسيح لدى قيامته من بين الأموات.
ثمّ إنّنا في انتقال مريم العذراء الى المجد السماوي نقرأ عمل الروح القدس في الإنسان. وكل مؤمن يعرف أنّ مسيرة حياته هي مسيرة عمل الروح القدس فيه. ومريم هي في الكنيسة رمز عمل الله في كل مؤمن.
حول صعود جسد العذراء
سؤال:
كم يوما مكثتها السيدة العذراء في القبر؟
الجواب:
المعروف, نقلا عن كتب الآباء السابقين, أن العذراء مريم كانت قد أقامت مع القديس يوحنا الرسول في بيته, بناء علي وصية مخلصنا يسوع المسيح إلي أمه العذراء الطوباوية, وهو علي الصليب كما يروي الأنجيل المقدس علي يد القديس يوحنا الحبيب:
فلما رأي يسوع أمه والتلميذ الذي كان يحبه واقفا قال لأمه: يا امرأة, هوذا ابنك, ثم قال للتلميذ: هذه أمك. ومن تلك الساعة أخذها التلميذ إلي بيته. (يوحنا19: 26, 27).
إذن كان بيت القديس يوحنا الرسول هو مقر إقامة العذراء مريم منذ أن تسلمها يوحنا كوصية معلمه وسيده, ذلك أن يوسف كان قد توفي قبل ذلك بكثير, ولم يكن للعذراء أحد آخر غير الرب يسوع. والمعروف في التقليد أن العذراء كانت كثيرا ما تتبع السيد المسيح في رحلاته وتنقلاته أثناء خدمته في المدة التي بدأت ببلوغه الثلاثين من عمره في التجسد إلي يوم صلبه. وكانت في بعض الأحايين تتنحي مكانا قريبا, وتصلي في خلوة. ومن بين تلك الأماكن المغارة التي أقيمت عليها الكنيسة المعروفة باسم العذراء مريم في مدينة صيدا بلبنان.
انظر كتاب امرأة من لبنان - الأنبا غريغوريوس - الموسوعة جزء14 في تفسير إنجيلي متي ومرقس ص180.
ومع أن بيت الرسول يوحنا كان مقرها الدائم بعد صلب المسيح وبعد قيامته من بين الأموات, غير أنها كانت تخرج دائما وتذهب إلي قبر ابنها وحبيبها وتصلي هناك, أحيانا وحيدة, وأحيانا تصحبها صويحباتها من البنات الأبكار اللائي تبعنها واتخذنها رائدة لهن, وهن (عذاري جبل الزيتون) ومن هذه الزمرة المقدسة تألفت أول جماعة من المتبتلات الطاهرات, أي أن العذراء مريم هي مؤسسة (نظام العذاري), وظل هذا النظام قائما طوال العصور الأولي, سابقا علي نظام الشكل الرهباني, وكان للعذاري في الكنيسة مكان مخصص لهن عرف بخورس العذاري كما تدلنا علي ذلك الدسقولية أي تعاليم الرسل (باب10, باب35) وكتب الكنيسة القديمة, وكتابات الآباء الأولين, وكتب المؤرخين القدامي, ومن بينهم القديس كيرلس رئيس أساقفة أورشليم.
ولذلك لا نستطيع أن نحصي الأيام التي قضتها العذراء في القبر المقدس والمجيد, ولكن آباء الكنيسة يقولون إنها قضت في بيت يوحنا نحو أربع عشرة سنة (السنكسار تحت16 من مسري).
ولذلك فإن يوحنا الحبيب لم يذهب بعيدا عن أورشليم قبل نياحة العذراء مريم وانتقالها إلي الأخدار السمائية. ولكن العذراء مريم هي التي ذهبت إلي مدينة برطس لإنقاذ القديس متياس الرسول (أعمال الرسل 1: 23-26), فقد كان سجينا هناك, فصلت العذراء صلاتها المعروفة بالصلاة حالة الحديد فذاب الحديد المصنوعة منه السلاسل التي كان مقيدا بها, المتاريس والمغالق وخرج القديس متياس, فآمن أهل المدينة, وتعيد الكنيسة لهذه المعجزة والحادثة في اليوم الحادي والعشرين من شهر بؤونة (ويقع حاليا في يوم 28يونية).
فيما عدا هذه الرحلة إلي تلك المدينة, والتي أنقذت فيها العذراء بصلواتها متياس الرسول من سجنه, لا تدلنا مصادرنا الكنسية علي مناسبة أخري تركت فيها العذراء, مدينة أورشليم القدس, إلا حينما حملها الرب يسوع المسيح علي السحب, وجاء بها إلي مصر لتدشين كنيسة العذراء الأثرية بجبل قسقام والتي أقيم حولها فيما بعد الدير المعروف بدير العذراء بالمحرق, وتعيد الكنيسة الأرثوذكسية في مصر في الأقاليم التابعة للكرازة المرقسية, لهذه المناسبة أي لتدشين كنيسة العذراء الأثرية بدير العذراء بالمحرق في اليوم السادس من هاتور. ولقد نزل المسيح له المجد من السماء لهذا الغرض وصحبه رؤساء الملائكة والملائكة, كما حملت السحب الآباء الرسل المنتقلين منهم والأحياء ليكونوا في شرف خدمة سيدهم ومعلمهم وربهم, الذي شاء بهذا التدشين أن يرد اعتبار العذراء التي أهانها اليهود بعد قيامته من بين الأموات بأكثر مما صنعوا قبل ذلك.
سؤال: هل صعدت بجسدها كما صعد إيليا وأخنوخ؟
الرد:
صعود جسد العذراء مريم كان ذلك بعد موتها, وهنا يختلف أمر هذا الصعود عن صعود إيليا النبي. فإيليا صعد حيا بجسده إلي السماء, في مركبة من نار وخيل من نار (2الملوك 2: 11) وأما أخنوخ فلم يوجد لأن الله أخذه (التكوين5: 24), (العبرانيين11: 5). فإيليا وأخنوخ لم يموتا بعد, لكن العذراء مريم ماتت, ودفنوها في الجثسمانية لكن الملائكة حملت جسدها بعد موتها وصعدت به إلي السماء, بعد ثلاثة أيام من موتها, ولذلك فإن الكنيسة تعيد لموت العذراء ولصعود جسدها بعيدين منفصلين, فتعيد لموت العذراء في 21من طوبة, بينما تعيد لصعود جسدها في16مسري.
سؤال: هل العذراء جالسة عن يمين السيد المسيح الآن أم هي في موضع الانتظار؟
الرد:
جسد العذراء قد رفع إلي السماء تكريما له, وهو محفوظ في السماء في الفردوس بمفرده, إلي يوم القيامة العامة (عن ميمر للقديس كيرلس الأول عمود الإيمان).
سؤال: هل هناك إثبات من العهد الجديد عن صعود جسد السيدة العذراء بخلاف المذكور فى السنكسار.
الرد:
ليس بالطبع ما يثبت ذلك في الكتاب المقدس لأن موت السيدة العذراء, وصعود جسدها بعد ذلك, حدث بعد كتابة آخر سفر في العهد الجديد. والكتاب أيضا لم يذكر شيئا عن موت أو استشهاد أكثر الآباء الرسل القديسين, فلم يتكلم بشئ عن قطع رأس بولس, أو صلب بطرس, أو أندراوس أوكيف انتهت حياة فيلبس, أو متي, أو توما, أو يوحنا, أو يعقوب الصغير, أو لباوس, أو سمعان القانوي, أو برثولماوس, أو يهوذا (ليس الأسخريوطي), أو متياس. إن الكتاب تحدث عن موت رسولين فقط وهما يهوذا الإسخريوطي (مت527)، ويعقوب بن زبدي أخو يوحنا (أع12: 2), (أع1: 18)
لكن تاريخ الكنيسة بعد الكتاب المقدس هو الذي سجل الأحداث التي لم يسجلها الكتاب المقدس, ولهذا فإن الكنيسة رتبت في طقوس القداس قراءة كتاب تراجم القديسين والشهداء (وهو السنكسار) بعد قراءة سفر الأعمال مباشرة لأنه امتداد له في تسجيل تاريخ الكنيسة.
علي أن حقيقة صعود جسد السيدة العذراء حقيقة معترف بها, منذ أقدم عصور الكنيسة وعند جميع الكنائس الرسولية, لأنها تقليد رسولي عن القديس يوحنا الرسول الذي شهد كل تفاصيل حياة السيدة العذراء وموتها, وصعود جسدها إلي السماء, كذلك هي رواية سائر الرسل الذين حملتهم سحب السماء, بأمر الروح القدس ليشاهدوا والدة الإله مريم في انتقالها من هذا العالم الزائل, ورووا هذه الواقعة للمؤمنين في جميع هذه البلاد التي كرزوا فيها, فذاع النبأ في الكنيسة الأولي, وصار تقليدا رسوليا في جميع الكنائس الرسولية, منذ العصر الرسولي الأولي. وقد سجل آباء الكنيسة هذا التقليد في كتب الكنيسة ومنها السنكسار.
سؤال: لماذا لم تصعد بجسدها حية كما صعد إيليا وأخنوخ؟
الرد:
ماتت أولا ثم أصعد جسدها بعد ذلك علي أيدي الملائكة, فلأنه كان ينبغي أولا أن تموت كموت البشر, فقد وضع للناس أن يموتوا مرة واحدة (عب9: 27).
حقا إن أخنوخ نقل بجسده (تك5: 24) وكذلك صعد إيليا في العاصفة إلي السماء وهو في الجسد (2مل2: 11) لكن هذين القديسين لابد أن ينزلا إلي الأرض مرة أخري ويموتا, ويري بعض اللاهوتيين أنهما سيموتان شهيدين في حكم الدجال (رؤ11: 7) فلا استثناء في قضية الموت, إن إنسان يحيا ولا يري الموت؟ أن ينجي نفسه من يد الهاوية (القبر)؟, (مز89: 48).
جاء في مقال للبابا ثيؤدوسيوس الإسكندري (حوالي عام 567م) بالقبطية البحيرية عن "نياحة مريم"، أنها واجهت حزن الرسل على موتها بالسؤال التالي: "أليس مكتوب أن كل جسد يلزم أن يذوق الموت هكذا يليق بي أن أعود إلى الأرض ككل سكان الأرض!".
كما يقدم النص السابق تعليلا أخر لموتها إلا وهو تأكيد حقيقة التجسد، فقد أورد حديثا للسيد المسيح مع أمه، يقول فيه: "كنت أود ألا تذوقي الموت، بل تعبرين إلى السماوات مثل أخنوخ وإيليا، لكن حتى هذين يلزم لأن يذوقا الموت. فلو حققت هذا معك لظن الأشرار أنك مجرد قوة نزلت من السماء وأن ما تحقق من تدبير (التجسد) لم يكن إلا مظهرا..."
سؤال: ما الحكمة في أن صعود جسدها بعد موتها؟
الرد:
لقد صعد جسد العذراء بعد موتها لأسباب لا ندعي معرفتها، ولعل فيها أن الله أراد أن يكرم هذا التابوت المقدس, الذي حل فيه الكلمة المتجسدة, فرفعه إلي مكان الكرامة والقداسة, إلي السماء إلي فردوس النعيم.
تذكار نياحة والدة الاله القديسة مريم العذراء (21 طوبة).
تذكار صعود جسد والدة الاله القديسة مريم العذراء (16 مسرى).
لقد أورد القدّيس يوحنّا الدمشقي، في عظته الثانية عن رقاد السيّدة، تقليدًا مستمَدًّا من كتاب "التاريخ الأوثيمي" المنحول، مفاده أنّ الرسل الأطهار جُذبوا بلحظة، ساعة رقاد السيّدة، وأتوا من كل الجهات التي كانوا يبشّرون فيها لأجل خلاص العالم، وارتقوا السحب بإشارة إلهيّة، ووفدوا على مقام البتول. ولمّا بلغوا إليها ظهر المسيح ابنها، فأودعت نفسها الطاهرة بين يديه. أمّا جسدها الذي حلّ فيه ابن الله، فشيّعه الرسل ومن معهم بكل إجلال ودفنوه في الجسمانية. ولمّا انقضى اليوم الثالث فتح الرسل الحاضرون نعش البتول نزولاً عند رغبة الرسول توما الذي لم يكن معهم، فلم يجدوا الجسد الكريم. فأخذتهم الدهشة والعجب... فاستنتجوا من الحادث أنّ الكلمة الأزلي الذي تنازل وأخذ جسدًا من أحشائها النقيّة، وحفظ بتوليّتها سالمة بعد ولادته منها، أراد أيضاً أن يكرّم جسدها البتولي والبريء من الدنس ويقيه من الفساد والانحلال وينقله إلى دار الخلود قبل القيامة العامّة. ويضيف الإنجيل المنحول أنّ تيموثاوس أوّل أسقف على أفسس، وديونيسيوس الأريوباجي وإياروثاوس أسقف أثينا حضروا مع الرسل أمام نعش والدة الإله. وقد استمرّ هذا التقليد في الفن الإيقونوغرافي البيزنطي الذي يمثّل رقاد السيّدة على الشكل المذكور أعلاه: العذراء مسجّاة على فراش الموت يحيط بها الرسل، والسيّد المسيح يتقبّل نفسها الطاهرة ترمز إليها طفلة صغيرة يحملها على ذراعيه.
إنّ هذا التقليد لا يرتكز على حدث تاريخي، بل يعبّر بشكل روائي عن إيمان الكنيسة الأولى بأنّ ابن الله الذي اتّخذ جسدًا من أحشاء مريم العذراء، وصار لها ابنًا حقًّا، وخصّها بشرف البتوليّة الدائمة، أكمل نعمته عليها، فصان جسده ها من فساد القبر ونقله إلى المجد السماوي. وهذا الايمان لا يستند إلى نصوص كتابيّة مباشرة بل إلى تحليل لاهوتي، يعتبر انتقال مريم العذراء بجسدها ونفسها إلى المجد السماوي نتيجة ضرورية لأمومتها الإلهيّة. فابن الله صار ابن مريم، وجسد كليهما واحد. وحيث يكون جسد الابن هناك جسد أمّه أيضاً. وكما أقام الله جسد ابنه ولم يتركه "يرى الفساد" (راجع خطبة بطرس الأولى في أع 2: 22- 32)، كذلك أقام الابن جسد أمّه، ذلك الهيكل الطاهر الذي قدّسه الروح القدس وسكن فيه ابن الله تسعة أشهر وقد اتّخذ منه دمه ولحمه، ولم يتركه يرى الفساد والانحلال كسائر أجساد البشر.
وهذا التحليل اللاهوتي نجده لدى كثير من الآباء. يقول القدّيس أندراوس الكريتي (+ 767): "من اللائق أن يدبّر ابن الله مصير والدته بحسب مصيره الخاصّ". ويقول جرمانوس بطريرك القسطنطينية (+ 733): "كيف يحوّلكِ الموت الى رماد وتراب، أنتِ التي، بتجسّد ابنك، أنقذت الإنسان من فساد الموت؟" والقدّيس يوحنّا الدمشقي (+749)، في عظته الأولى والثانية على الانتقال، يوضح لماذا ماتت مريم العذراء، ولماذا انتقلت بعد موتها الى السماء بجسدها ونفسها. يقول: "لماذا الانتقال؟ لقد كان من الواجب أن يكابد أسر المهاوي الأرضيّة هذا المقرّ اللائق بالله، الينبوع الذي لم تحفره يد البشر، حيث تتفجّر المياه التي تطهّر من الخطايا، الأرض غير المحروقة التي تنتج الخبز السماوي، الكرمة التي أعطت بدون أن تروى خمر الخلود، زيتونة رحمة الآب الدائمة الاخضرار ذات الثمار العذبة. ولكن، كما أنّ الجسد المقدّس النقيّ الذي اتّخذه الكلمة الإلهيّة منها، قام من القبر في اليوم الثالث، هكذا كان يجب أن تؤخذ هي من القبر وأن تجتمع الأمّ بابنها. وكما نزل نحوها، هكذا يجب أن تُرفَع هي عينها، وهي موضوع محبّته، حتى "القبّة الأسمى والأكمل" الى "السماء عينها" (عب 9: 11- 24).
"لقد كان يجب أن تصون جسدها من الفساد حتى بعد وفاتها تلك التي لم تثلم بكارتها في الولادة.
"كان يجب أن تعيش في القباب الإلهيّة تلك التي حملت خالقها في حشاها طفلاً صغيرًا. كما يجب أن تأتي العروس التي اختارها الآب، فتقطن في السماء المقرّ الزوجي...
"اليوم العذراء البريئة من الَدنس، التي لم تخامرها عاطفة أرضيّة، بل تغذّت بالأفكار السماويّة، لم تعد الى التراب، وبما أنّها بالحقيقة سماء حيّة، أقامت في الأخبية السماويّة، فهل يخطىء إذن من يدعوها "سماء"؟ إلاّ إذا قلنا، ولعلّه بعدل وصواب، إنّها تفوق السماوات عينها بامتيازات لا مثيل لها، لأنّ من بنى السماوات واحتواها، والذي صنع الكون وما وراء الكون، المنظور وغير المنظور (كو 1: 16)، الذي لا مقرّ له، لأنّه هو عينه مقرّ كلّ الكائنات -لأنّ المقرّ في تحديده يحوي ما فيه- قد جعل نفسه فيها طفلاً صغيرًا، وجعل منها مقرّ ألوهيّته الفسيح الذي يملأ كلّ شيء، وحيدًا ولا حدّ له، قد تجمّع فيها كلُّه بدون أن يتصاغر، وهو مستقرّ بكامله خارجًا، لأنّه هو مقرّ ذاته غير المحدود.
"اليوم كنز الحياة، لجّة النعمة، تدخل في ظلال موت يحمل الحياة، تتقدّم منه بدون خوف، تلك التي ولدت مبيده، هذا إذا جاز أن نسمّي موتًا رحيلها المفعم قداسة وحياة.
"كيف تقع في سلطان الموت من كانت للجميع ينبوعًا للحياة الحقيقية؟ غير أنّها تخضع للشريعة التي وضعها ابنها عينه، وكابنة لآدم القديم تفي الدين الوالديّ، لأنّ ولدها عينه، الذي هو الحياة في ذاته، لم يرفض ذلك. ولكن بصفتها والدة الإله الحيّ، فمن العدل أن تُنقَل اليه، لأنّه إذ قال الله: لئلاّ يمدّ الإنسان (المخلوق الأوّل) يده فيقطف من شجرة الحياة ويأكل فيحيا الى الأبد... (تك 3: 22)، كيف لا تعيش مدى الأبد تلك التي قبلت الحياة عينها بدون بداية ولا نهاية؟".
والكنيسة الأرثوذكسيّة، انسجامًا مع تعاليم الآباء، تؤمن أيضًا بانتقال مريم العذراء الى السماء بجسدها ونفسها، ولكن دون أن تفرض هذا الأمر على ضمير المؤمنين كعقيدة إيمانية، "لأنّها تفتقر الى إثبات، ولم يرد في الإعلان الإلهي أو الكتاب المقدّس أيّ إشارة تؤكّدها"، حسب قول أحد المؤلّفين الأرثوذكسيّين، الذي يضيف موضحًا أسباب انتشار هذا الاعتقاد في عبادة الكنيسة: "وفي هذه العبادة رجاء للكنيسة بالاستعادة الآتية (Apokatastase)، أي عودة الخليقة كلّها، في اليوم الأخير، الى وضعها الفردوسي، بالتألّه، لأنّ العذراء، "بانتقالها الى الحياة"، هي "أوّل كائن بشري يتألّه، كما يقول بول إفدوكيموف، وهي الأولى والسبّاقة، لأنّها ولدت الطريق ووضعت نفسها في الاتّجاه الصحيح، كأنّها "عمود من نار يقود المؤمنين الى أورشليم الجديدة" (فلاديمير لوسكي). لذلك "يلخِّص اسم والدة الإله كلّ تاريخ التدبير الإلهي في العالم"، كما يقول القدّيس يوحنّا الدمشقي (في الإيمان الأرثوذكسي 3: 12)... وفي المجال نفسه يقول اللاّهوتي الأرثوذكسي اليوناني المعاصر بنايوتيس نيللاس: "شركة سريّة تربط جسد مريم بجسد المسيح. وكما أنّ جسد المسيح هو في الحقيقة جسد أمّه، هكذا جسد مريم هو أيضًا جسد ابنها المتألّه. مريم هي أوّل كائن بشري يتّحد بطريقة صحيحة وحقيقية بالمسيح. لقد لبست حقًّا المسيح. لهذا السبب لم يبق جسدها في فساد الموت، بل رفعه المسيح الى السماء كعربون لصعود جميع القدّيسين بأجسادهم الى السماء".
ج) انتقال مريم العذراء في الصلوات الليترجيّة
هذا الإيمان بانتقاله مريم العذراء قد عبّرت عنه الكنيسة في صلواتها الليترجيّة. نقتطف بعضًا من هذه الصلوات من رتبة عيد رقاد السيّدة في الطقس البيبزنطي:
"أيّتها البتول، لقد أوليتِ الطبيعة جوائز الغلبة إذ ولدت الإله، ولكنّك خضعتِ لنواميس الطبيعة مماثلة ابنكِ وخالقكِ، ومن ثمّ متِّ لتنهضي معه الى الأبد".
"إنّ الملك إله الكلّ قد منحكِ ما يفوق الطبيعة، لأنّه كما صانكِ في الولادة عذراء، كذلك صان جسدكِ في الرمس بغير فساد، ومجّدكِ معه بانتقالكِ الإلهيّ، وأولاكِ شرفًا شأن الابن مع أمّه".
"أمّا في ميلادكِ، يا والدة الإله، فحبل بغير زرع. وأمّا في رقادك فموت بغير فساد. إنّ في ذلك أعجوبة بعد أعجوبة. إذ كيف العادمة الزواج تغذّي ابنًا وتلبث طاهرة، أم كيف أمّ الإله تُشَمُّ منها رائحة ثوب الممات؟ فلذلك نرنّم لك مع الملاك قائلين: السلام لك يا ممتلئة نعمة"
"أيتّها النقيّة، إنّ المظالّ السماويّة الإلهيّة قد تقبّلتك كما يليق، بما أنّك سماء حيّة ومنزّهة عن كل وصمة".
د) أبعاد انتقال مريم العذراء الى السماء ومعانيه
ما آمنت به الكنيسة منذ القرون الأولى وعبرّت عنه بطرق متنوّعة في الصلوات الليترجيّة ومواعظ الآباء، وتحديد العقيدة في الكنيسة الكاثوليكيّة في موضوع انتقال مريم العذراء بجسدها ونفسها الى المجد السماوي، هو إعلان للعظائم التي صنعها الله في مريم العذراء، بحسب قولها: "ها منذ الآن تغبّطني جميع الأجيال، لأنّ القدير صنع بي عظائم، واسمه قدّوس، ورحمته الى جيل وجيل للّذين يتّقونه" (لو 1: 48- 50). إنّ عظائم الله قد رافقت مريم العذراء طوال حياتها، وبما أنّ الله هو إله الحياة التي لا نهاية لها، تؤمن الكنيسة أنّ ما صنعه الله من عظائم لا يتوقّف عند حدود هذه الحياة بل يمتدّ الى ما بعد الموت. ويستطيع كلّ مؤمن أن يقرأ في مسيرة حياة مريم العذراء مسيرة إيمانه، وفي مصير مريم العذراء بعد الموت مصير كيانه ومصير شخصه في نهاية الزمن.
الروح القدس أحيا جسد العذراء
يقول بولس الرسول: "إذا كان روح الذي أقام يسوع من بين الأموات ساكنًا فيكم، فالذي أقام المسيح يسوع من بين الأموات يحيي أيضًا أجسادكم المائتة بروحه الساكن فيكم" (رو 8: 11).
انتقال مريم العذراء بجسدها ونفسها الى السماء هو نتيجة لعمل الروح القدس فيها. فالروح القدس الذي حلّ عليها وأحيا جسدها لتصير أمًّا لابن الله هو نفسه يكمّل عمله فيها ويحيي جسدها المائت وينقله الى المجد السماوي. الروح القدس هو قدرة الله المحيية، وهذه القدرة لا يوقفها شيء: إنّها حركة دائمة، وديناميّتها تفوق ما يستطيع عقلنا البشري تصوّره. بهذه القدرة كان يسوع يشفي المرضى ويخرج الشياطين ويقيم الموتى (راجع لو 4: 18- 19؛ مر 12: 18- 28). وبهذه القدرة قام هو نفسه من الموت. وبهذه القدرة سيقيم الأموات في الدينونة العامة. ولأنّ مريم العذراء كانت في جسدها ونفسها مستسلمة استسلامًا تامًّا لعمل الروح القدس، آمن المسيحيّون منذ القرون الأولى أنّها حصلت حالاً بعد موتها على قيامة الجسد التي هي مصير كلّ المؤمنين في نهاية الزمن.
بهاء القيامة
الخلاص في الديانة المسيحيّة ليس إنقاذ الإنسان من الخطايا بقدر ما هو إعادته الى بها الصورة الإلهيّة التي خُلق عليها.. الديانة المسيحيّة هي ديانة البهاء والمجد، وتلك السمة هي التي تبرّر وجودها وتثّبت صحتّها. فإذا كان لله وجود، وإذا كان الله قد ظهر لنا في شخص ابنه وكلمته وصورة مجده يسوع المسيح، فلا بدّ من أن يكون الله إله المجد والبهاء. وهذا ما تعبّر عنه الكنيسة في اعتقادها بانتقال مريم العذراء. تقول الكنيسة البيزنطية في إحدى صلوات عيد رقاد السيّدة: "ما أعجب أسرارك أيّتها السيّدة النقيّة، لأنّك ظهرت عرشًا للعليّ، واليوم قد انتقلت من الأرض الى السماء. فمجدك وافر البهاء، ويعكس أشعّة المواهب الإلهيّة" (صلاة المساء الكبرى). إنّ أشعّة المواهب الإلهيّة التي حصلت عليها مريم العذراء تنعكس في حياتها. فهي السيّدة النقيّة لأنّها "ممتلئة نعمة"، وقد "ظهرت عرشًا للعليّ"، لأنّ ابن الله سكن فيها، وتكلّلت تلك المواهب "بانتقالها من الأرض الى السماء"، وظهر فيها مجد الله الوافر البهاء.
لا يمكننا التنكّر للواقع والتغاضي عن الخطيئة في العالم. ولكنّ قيامة المسيح هي أيضًا جزء من هذا الواقع. من قبر المسيح انبعث نور الله، ومع المسيح القائم من بين الأموات دخل مجد الله العالم، ويعمل كالخمير على تجديده من الداخل. تاريخ العالم ليس تاريخ معركة مجهولة المصير بين الحقّ والباطل، بل تاريخ ولادة جديدة. يقول بولس الرسول: "إنّ الخليقة قد أُخضعت للباطل.. إنّما على رجاء أنّ الخليقة ستُعتَق، هي أيضًا، من عبوديّة الفساد الى حريّة مجد أبناء الله. فنحن نعلم أنّ الخليقة كلّها معًا تئنّ حتى الآن وتتمخَّض، وليس هي فقط، بل نحن أيضًا الذين لهم باكورة الروح، نحن أيضًا نئنّ في أنفسنا منتظرين التبنّي افتداء أجسادنا" (رو 8: 20- 23). نحن من الآن أبناء الله، ولنا باكورة الروح، ولكنَّ ما نحن عليه سيتجلّى على أتمّ وجه في المجد الخالد، فيكون عندئذ للجسد المفتدى، القائم، قسط من السعادة كبير، حسب قول بولس الرسول: " الإنسان الأوّل من الأرض، من التراب، والإنسان الثاني من السماء. فعلى مثال الترابي يكون الترابيّون، وعلى مثال السماوي يكون السماويّون، وكما لبسنا صورة الترابي نلبس أيضًا صورة السماوي" (1 كور 15: 47- 49). في وسط عالمنا لبس المسيح السماوي جسدنا الترابي، وبهذا الجسد ارتبط بعالمنا. وقيامته الجسديّة لم تفقده ارتباطه بنا، بل بدخوله مجد الآب، صار ارتباطه بنا أكثر اتّساعًا. ارتفع عن الأرض ليجتذب اليه الجميع (يو 12: 32)، ارتفع الى السماوات ليملأ مجده جميع الأرض، بحسب قول المزمور: "ارتفع اللهمّ على السماوات، وليكن مجدك على جميع الأرض" (مز 57: 12؛ راجع أيضًا أف 4: 8- 10). المسيح لم يتمجّد وحده. "فبعد إذ أميت بالجسد، استردّ الحياة بالروح، وبهذا الروح عينه مضى وبشّر الأرواح المضبوطة في السجن" (1 بط 3: 19)، أي إنّه نزل الى "الجحيم" مقرّ الأموات حيث كانت نفوس الصدّيقين تنتظر، كفي سجن، مجيئه الخلاصي وصعودها معه الى السماء، وبشّرها بأنّ عمل الفداء قد تحقّق، وتمّ الانتصار على الموت. وفي الموضوع عينه يتكلّم إنجيل متّى عن عامه كسيرين من الأموات مع المسيح: "القبور تفتّحت، وكثيرون من القدّيسين الراقدة أجسادهم فيها قاموا، وخرجوا من القبور بعد قيامته، ودخلوا المدينة المقدّسة، وتراءوا لكثيرين" (متّى 27: 52- 53).
إنّ ابن الله الذي "له مجد الآب من قبل كون العالم" (يو 17: 5) قد تجسّد في أحشاء مريم العذراء. وبسبب تلك الشركة الروحيّة في المجد والبهاء بين السيّد المسيح وأمّه، آمنت الكنيسة أنّ مريم العذراء، بعد موتها، شاركت ابنها مجد قيامته كما شاركته، في تجسده، مجد ظهوره.
قيامة الأجساد
جسد الإنسان، في نظر الكتاب المقدّس، ليس سجنًا يجب التخلّص منه للوصول الى العالم الحقيقي، عالم الأرواح. نظرة الكتاب المقدّس الى الإنسان لا تقوم على التناقض بين الجسد والروح، بل على التناقض بين الفرد المنعزل المتقون على ذاته والشخص المنفتح في علائقه على الكون وعلى الآخرين وعلى الله. والجسد هو ما يتيح للإنسان الحيّ أن يرتبط بعلائق بنّاءة بالكون والآخرين والله. فالجسد هو إذن الإنسان ذاته من حيث ارتباطه بالعالم الخارجي. لذلك أيضًا رأى معظم آباء الكنيسة، ولا سيّمَا في الشرق، أنّ التجسّد كان لا بدّ منه، ولو لم يخطأ الإنسان، وذلك ليكتمل ارتباط الله بالإنسان وارتباط الإنسان بالله، ونعمة الله التي تعمل في الإنسان تعمل فيه حيث يبني ذاته ويحقّق كيانه العلائقي، فتجعله في روحه وفي جسده أكثر انفتاحًا على الله وعلى الآخرين. للنعمة قوّة تغيير وانفتاح، وعملها هو عمل الحياة الإلهيّة نفسها. كلّ اتصال بالله لا بدّ له من أن يغيّر الإنسان، وإلاّ كان الله مجرّد وهم ابتكره خيال الإنسان ليكوّن لنفسه ما يتعلّق به في هذه الحياة المتقلّبة. إلهنا شخص حيّ يحوّل كلّ من يتّصل به، يدخل أعماق الإنسان ليملأه بحياته الإلهيّة. وقيامة الأجساد هي امتلاء الإنسان من تلك الحياة الإلهية في كل أبعاد كيانه وفي كل ارتباطاته بالله وبالكون وبالآخرين.
إيمان الكنيسة بانتقال مريم العذراء بجسدها ونفسها الى السماء هو اعتراف بأنّ اتّحادها الصميم بالله بجسدها ونفسها، هذا الاتحاد الذي تحقّق لها بتجسّد ابن الله في أحشائها، كما تحقّق لها أيضًا بأمانتها لمحبّة الله واستسلامها لعلم الله فيها طوال حياتها، هذا الاتّحاد يستمرّ بعد موتها باشتراكها في مجد القيامة. فكما تمجّد ابنها وصار مرتبطًا بدخوله مجد الله بالعالم كلّه، هكذا أيضًا تمجّدت مريم العذراء وصارت مرتبطة بالعالم كلّه. وما سيحدث لجميع المؤمنين في القيامة العامة، أي ارتباطهم الكامل الممجّد بالعالم وبالله، قد حدث لمريم العذراء كما حدث لابنها يسوع المسيح لدى قيامته من بين الأموات.
ثمّ إنّنا في انتقال مريم العذراء الى المجد السماوي نقرأ عمل الروح القدس في الإنسان. وكل مؤمن يعرف أنّ مسيرة حياته هي مسيرة عمل الروح القدس فيه. ومريم هي في الكنيسة رمز عمل الله في كل مؤمن.
حول صعود جسد العذراء
سؤال:
كم يوما مكثتها السيدة العذراء في القبر؟
الجواب:
المعروف, نقلا عن كتب الآباء السابقين, أن العذراء مريم كانت قد أقامت مع القديس يوحنا الرسول في بيته, بناء علي وصية مخلصنا يسوع المسيح إلي أمه العذراء الطوباوية, وهو علي الصليب كما يروي الأنجيل المقدس علي يد القديس يوحنا الحبيب:
فلما رأي يسوع أمه والتلميذ الذي كان يحبه واقفا قال لأمه: يا امرأة, هوذا ابنك, ثم قال للتلميذ: هذه أمك. ومن تلك الساعة أخذها التلميذ إلي بيته. (يوحنا19: 26, 27).
إذن كان بيت القديس يوحنا الرسول هو مقر إقامة العذراء مريم منذ أن تسلمها يوحنا كوصية معلمه وسيده, ذلك أن يوسف كان قد توفي قبل ذلك بكثير, ولم يكن للعذراء أحد آخر غير الرب يسوع. والمعروف في التقليد أن العذراء كانت كثيرا ما تتبع السيد المسيح في رحلاته وتنقلاته أثناء خدمته في المدة التي بدأت ببلوغه الثلاثين من عمره في التجسد إلي يوم صلبه. وكانت في بعض الأحايين تتنحي مكانا قريبا, وتصلي في خلوة. ومن بين تلك الأماكن المغارة التي أقيمت عليها الكنيسة المعروفة باسم العذراء مريم في مدينة صيدا بلبنان.
انظر كتاب امرأة من لبنان - الأنبا غريغوريوس - الموسوعة جزء14 في تفسير إنجيلي متي ومرقس ص180.
ومع أن بيت الرسول يوحنا كان مقرها الدائم بعد صلب المسيح وبعد قيامته من بين الأموات, غير أنها كانت تخرج دائما وتذهب إلي قبر ابنها وحبيبها وتصلي هناك, أحيانا وحيدة, وأحيانا تصحبها صويحباتها من البنات الأبكار اللائي تبعنها واتخذنها رائدة لهن, وهن (عذاري جبل الزيتون) ومن هذه الزمرة المقدسة تألفت أول جماعة من المتبتلات الطاهرات, أي أن العذراء مريم هي مؤسسة (نظام العذاري), وظل هذا النظام قائما طوال العصور الأولي, سابقا علي نظام الشكل الرهباني, وكان للعذاري في الكنيسة مكان مخصص لهن عرف بخورس العذاري كما تدلنا علي ذلك الدسقولية أي تعاليم الرسل (باب10, باب35) وكتب الكنيسة القديمة, وكتابات الآباء الأولين, وكتب المؤرخين القدامي, ومن بينهم القديس كيرلس رئيس أساقفة أورشليم.
ولذلك لا نستطيع أن نحصي الأيام التي قضتها العذراء في القبر المقدس والمجيد, ولكن آباء الكنيسة يقولون إنها قضت في بيت يوحنا نحو أربع عشرة سنة (السنكسار تحت16 من مسري).
ولذلك فإن يوحنا الحبيب لم يذهب بعيدا عن أورشليم قبل نياحة العذراء مريم وانتقالها إلي الأخدار السمائية. ولكن العذراء مريم هي التي ذهبت إلي مدينة برطس لإنقاذ القديس متياس الرسول (أعمال الرسل 1: 23-26), فقد كان سجينا هناك, فصلت العذراء صلاتها المعروفة بالصلاة حالة الحديد فذاب الحديد المصنوعة منه السلاسل التي كان مقيدا بها, المتاريس والمغالق وخرج القديس متياس, فآمن أهل المدينة, وتعيد الكنيسة لهذه المعجزة والحادثة في اليوم الحادي والعشرين من شهر بؤونة (ويقع حاليا في يوم 28يونية).
فيما عدا هذه الرحلة إلي تلك المدينة, والتي أنقذت فيها العذراء بصلواتها متياس الرسول من سجنه, لا تدلنا مصادرنا الكنسية علي مناسبة أخري تركت فيها العذراء, مدينة أورشليم القدس, إلا حينما حملها الرب يسوع المسيح علي السحب, وجاء بها إلي مصر لتدشين كنيسة العذراء الأثرية بجبل قسقام والتي أقيم حولها فيما بعد الدير المعروف بدير العذراء بالمحرق, وتعيد الكنيسة الأرثوذكسية في مصر في الأقاليم التابعة للكرازة المرقسية, لهذه المناسبة أي لتدشين كنيسة العذراء الأثرية بدير العذراء بالمحرق في اليوم السادس من هاتور. ولقد نزل المسيح له المجد من السماء لهذا الغرض وصحبه رؤساء الملائكة والملائكة, كما حملت السحب الآباء الرسل المنتقلين منهم والأحياء ليكونوا في شرف خدمة سيدهم ومعلمهم وربهم, الذي شاء بهذا التدشين أن يرد اعتبار العذراء التي أهانها اليهود بعد قيامته من بين الأموات بأكثر مما صنعوا قبل ذلك.
سؤال: هل صعدت بجسدها كما صعد إيليا وأخنوخ؟
الرد:
صعود جسد العذراء مريم كان ذلك بعد موتها, وهنا يختلف أمر هذا الصعود عن صعود إيليا النبي. فإيليا صعد حيا بجسده إلي السماء, في مركبة من نار وخيل من نار (2الملوك 2: 11) وأما أخنوخ فلم يوجد لأن الله أخذه (التكوين5: 24), (العبرانيين11: 5). فإيليا وأخنوخ لم يموتا بعد, لكن العذراء مريم ماتت, ودفنوها في الجثسمانية لكن الملائكة حملت جسدها بعد موتها وصعدت به إلي السماء, بعد ثلاثة أيام من موتها, ولذلك فإن الكنيسة تعيد لموت العذراء ولصعود جسدها بعيدين منفصلين, فتعيد لموت العذراء في 21من طوبة, بينما تعيد لصعود جسدها في16مسري.
سؤال: هل العذراء جالسة عن يمين السيد المسيح الآن أم هي في موضع الانتظار؟
الرد:
جسد العذراء قد رفع إلي السماء تكريما له, وهو محفوظ في السماء في الفردوس بمفرده, إلي يوم القيامة العامة (عن ميمر للقديس كيرلس الأول عمود الإيمان).
سؤال: هل هناك إثبات من العهد الجديد عن صعود جسد السيدة العذراء بخلاف المذكور فى السنكسار.
الرد:
ليس بالطبع ما يثبت ذلك في الكتاب المقدس لأن موت السيدة العذراء, وصعود جسدها بعد ذلك, حدث بعد كتابة آخر سفر في العهد الجديد. والكتاب أيضا لم يذكر شيئا عن موت أو استشهاد أكثر الآباء الرسل القديسين, فلم يتكلم بشئ عن قطع رأس بولس, أو صلب بطرس, أو أندراوس أوكيف انتهت حياة فيلبس, أو متي, أو توما, أو يوحنا, أو يعقوب الصغير, أو لباوس, أو سمعان القانوي, أو برثولماوس, أو يهوذا (ليس الأسخريوطي), أو متياس. إن الكتاب تحدث عن موت رسولين فقط وهما يهوذا الإسخريوطي (مت527)، ويعقوب بن زبدي أخو يوحنا (أع12: 2), (أع1: 18)
لكن تاريخ الكنيسة بعد الكتاب المقدس هو الذي سجل الأحداث التي لم يسجلها الكتاب المقدس, ولهذا فإن الكنيسة رتبت في طقوس القداس قراءة كتاب تراجم القديسين والشهداء (وهو السنكسار) بعد قراءة سفر الأعمال مباشرة لأنه امتداد له في تسجيل تاريخ الكنيسة.
علي أن حقيقة صعود جسد السيدة العذراء حقيقة معترف بها, منذ أقدم عصور الكنيسة وعند جميع الكنائس الرسولية, لأنها تقليد رسولي عن القديس يوحنا الرسول الذي شهد كل تفاصيل حياة السيدة العذراء وموتها, وصعود جسدها إلي السماء, كذلك هي رواية سائر الرسل الذين حملتهم سحب السماء, بأمر الروح القدس ليشاهدوا والدة الإله مريم في انتقالها من هذا العالم الزائل, ورووا هذه الواقعة للمؤمنين في جميع هذه البلاد التي كرزوا فيها, فذاع النبأ في الكنيسة الأولي, وصار تقليدا رسوليا في جميع الكنائس الرسولية, منذ العصر الرسولي الأولي. وقد سجل آباء الكنيسة هذا التقليد في كتب الكنيسة ومنها السنكسار.
سؤال: لماذا لم تصعد بجسدها حية كما صعد إيليا وأخنوخ؟
الرد:
ماتت أولا ثم أصعد جسدها بعد ذلك علي أيدي الملائكة, فلأنه كان ينبغي أولا أن تموت كموت البشر, فقد وضع للناس أن يموتوا مرة واحدة (عب9: 27).
حقا إن أخنوخ نقل بجسده (تك5: 24) وكذلك صعد إيليا في العاصفة إلي السماء وهو في الجسد (2مل2: 11) لكن هذين القديسين لابد أن ينزلا إلي الأرض مرة أخري ويموتا, ويري بعض اللاهوتيين أنهما سيموتان شهيدين في حكم الدجال (رؤ11: 7) فلا استثناء في قضية الموت, إن إنسان يحيا ولا يري الموت؟ أن ينجي نفسه من يد الهاوية (القبر)؟, (مز89: 48).
جاء في مقال للبابا ثيؤدوسيوس الإسكندري (حوالي عام 567م) بالقبطية البحيرية عن "نياحة مريم"، أنها واجهت حزن الرسل على موتها بالسؤال التالي: "أليس مكتوب أن كل جسد يلزم أن يذوق الموت هكذا يليق بي أن أعود إلى الأرض ككل سكان الأرض!".
كما يقدم النص السابق تعليلا أخر لموتها إلا وهو تأكيد حقيقة التجسد، فقد أورد حديثا للسيد المسيح مع أمه، يقول فيه: "كنت أود ألا تذوقي الموت، بل تعبرين إلى السماوات مثل أخنوخ وإيليا، لكن حتى هذين يلزم لأن يذوقا الموت. فلو حققت هذا معك لظن الأشرار أنك مجرد قوة نزلت من السماء وأن ما تحقق من تدبير (التجسد) لم يكن إلا مظهرا..."
سؤال: ما الحكمة في أن صعود جسدها بعد موتها؟
الرد:
لقد صعد جسد العذراء بعد موتها لأسباب لا ندعي معرفتها، ولعل فيها أن الله أراد أن يكرم هذا التابوت المقدس, الذي حل فيه الكلمة المتجسدة, فرفعه إلي مكان الكرامة والقداسة, إلي السماء إلي فردوس النعيم.
تذكار نياحة والدة الاله القديسة مريم العذراء (21 طوبة).
تذكار صعود جسد والدة الاله القديسة مريم العذراء (16 مسرى).
مجدى عيد- مدير عام المنتدى
- عدد المساهمات : 3577
تاريخ التسجيل : 17/06/2011
مواضيع مماثلة
» نياحة وصعود جسد مريم العذراء
» نياحة حنة والدة مريم العذراء
» مريم العذراء عند الصليب
» نياحة يواقيم والد العذراء أم الاله
» مريم العذراء
» نياحة حنة والدة مريم العذراء
» مريم العذراء عند الصليب
» نياحة يواقيم والد العذراء أم الاله
» مريم العذراء
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الأربعاء نوفمبر 13, 2024 2:24 pm من طرف ashref nour
» ايقونات متحركه للمنتديات المجموعة الثالثه
الخميس نوفمبر 07, 2024 4:30 pm من طرف مجدى عيد
» ايقونات متحركه للمنتديات المجموعة الثانية
الخميس نوفمبر 07, 2024 10:44 am من طرف مجدى عيد
» ايقونات متحركه للمنتديات المجموعة الاولى
الخميس نوفمبر 07, 2024 10:38 am من طرف مجدى عيد
» جوعنى ليك المرنم مجدى عيد
السبت نوفمبر 02, 2024 9:33 am من طرف مجدى عيد
» تطويبات المسيح للمعذبين في الأرض
الجمعة نوفمبر 01, 2024 10:16 pm من طرف ashref nour
» الطفل الشهيد فيلوثاؤس
الأربعاء أكتوبر 30, 2024 10:16 pm من طرف ashref nour
» على ضرب الاوتار المرنم مجدى عيد
الأربعاء أكتوبر 23, 2024 6:12 pm من طرف مجدى عيد
» فارد زى النسر جناحى المرنم مجدى عيد
الأربعاء أكتوبر 23, 2024 6:11 pm من طرف مجدى عيد